الثلاثاء، أكتوبر 14، 2008

(2) الاستاذ رؤوف


لم يكن يعلم الاستاذ رؤوف شيئا عن الرجل .. انه قد قابله بالمصادفة في الكافيتريا و هو مغيم الوعي .. كان قد شرب الكثير من الحميم في هذا اليوم .. يتذكر ايضا انه قد اعطاه رقم هاتفه الجوال في حالة اذا اراد الاتصال به يوما بعد ذلك .. حتى اتصل به فعلا مطالبا اياه لمقابلته .. لكن بعيدا عن الكافيتريا هذه,,

توقف وهو يحتسي القهوة الصباحية عن الكلام فجأة و هو يرفع حاجباه مستغربا معرفة الرجل بهذا الدواء الذي يتاجر فيه .. لم يكن دواءا بالمعنى المعروف لانه لم يكن يداوي اي شيء من الامراض المعروفة .. بل هو تركيبة معينة يشتريها من سارق ما داخل شركته القديمة ليبيعها لتاجر مخدرات معروف كي يمزجها مع المادة المخدرة التي يبيعها .. بالطبع كان الاستاذ رؤوف على علم بهذه المادة المخدرة .. لقد كان (حشيشا) لكنه بنكهه مختلفة تثير في شاربها احساس الاستمتاع المباشر و التحليق عاليا فوق جبال الاولمبيك المقدسة.

الاستاذ رؤوف لم يذق في حياته جميعها الحشيش .. انه مقتنع للغاية بالخمر .. " الخمر مزاج راقي ... اما الحشيش فهو مزاج الشعب " قال الاستاذ رؤوف مؤكدا و وجهه خشبي تأبى الابتسامة زيارته .. فابتسم الرجل مجاملا " انت تعلم ان هذه التركيبة تزيد فرص الموت لمدمني الحشيش .. فهي تتسبب بسرطان مباشر في الدم " قال الرجل .. لكن الاستاذ رؤوف ضحك أخيرا و قال " مدمن الحشيش لا يهتم أبدا بالموت .. فهو بإدمانه هذا سيموت فعلا .. انه ينتظر الموت مع كل نفس يستنشقه من الحشيش المحروق .. انه يهتم فقط بتلك اللحظة التي يطير فيها فوق سحب الاسكندرية متأملا أرواح الاغريقيين الاوائل " ابتسم الرجل للتشبيه البليغ للاستاذ رؤوف و اكمل شرب القهوة ..

كان الأستاذ رؤوف في أواخر العقد الخامس من عمره .. مطلق .. بشع الوجه و غير مهندم الملابس .. تفوح من فمه دوما رائحة الخمر .. لا يعمل ! خرج معاش مبكر من أحد الشركات التي خصخصتها الحكومة و كانت مختصة بصناعة الأسمدة و الكيماويات ... كان يعمل فيها تقني كيماويات لفترة ليست قصيرة, لم يتعلم في جامعات بل دخلها عن طريق أحد الضباط من أصحاب والده أيام الفوضي العسكرية في السبعينيات.. لم يكن يعلم شيئا عن عالم الكيماويات حتى تعلم من أحد التقنيين .. لذا كان تسريحه من الشركة الأسرع.

أدمن الحميم منذ ان طلق زوجته قبل خروجه على المعاش بحوالي بضع سنوات .. و أدمن الكافيتريا لوجود مدام شاهنده فيها .. كان فظ التعامل و دعاها اكثر من مرة الى بيته بطريقه فظة لكنها كانت تنبذه دائما, فلها ما يكفيها كي تشغل عقلها به .. " لا أريد ان يكون آخر رجل يلمسني انت " قالت له بسخرية لاذعة جدا !!

" تحدثني و كأنك رجل مكافحة المخدرات رغم ان مظهرك لا يبدو لي كذلك " .. قد كان الرجل طويل القامة .. أبيض البشرة يتدفق الدم الى وجهه عندما يتحدث .. و كان انيق الملبس .. ذو رائحة عطرة ... انه يبدو كتاجر مخدرات منه الى رجل مكافحة المخدرات " اليس هذا ما يتطلبة الرجل ليكون عميل سرّي في عصابة مخدرات " قال الرجل معقبا على حديث الاستاذ رؤوف .. لكن الاستاذ رؤوف اوضح قائلا " أعلم انك جئت الكافيتريا من فترة للايقاع بمدام شاهنده .. انا رأيتها كيف كانت تنظر اليك .. كما اني أشتم رائحة الشرطة لو كانت في سيدي جابر و كنت انا في شقة بالدور السابع في منطقة مصطفى كامل " سكت قليلا الاستاذ رؤوف ليسعل مرتين ثم اكمل " لكني أستغرب للغاية كيفية معرفتك بموضوع التركيبة هذه " قال الرجل و هو يعتدل في جلسته بالمقهى الامريكي الفاخر " كنت أعرف صديقك في الشركة القديمة و هو من دلّني عليك .. انه يقول عنك اشعارا "

ابتسم الاستاذ رؤوف زاهيا بنفسه و تمتم قائلا " سأحدثك عن شيء .. انا لم أتخرج من كلية ما كمثل الفنيين الآخرين .. بل كان دخولي الى الشركة أحد المميزات الكبيرة التي حققتها لي ثورة عبد الناصر .. و قد تعلمت على ايدي خبراء فعليين في هذا الوقت ليس كمثل خبراء هذه الايام .. و بخبرتي الطويلة تبنيت صديقي هذا و علمته ما تعلمته كله بلا اي تقصير .. من الرائع حقا ان يعطي الفرد و لا ينتظر من ما يعطيه شيئا .. لم أبخل بشيء صدقني .. و لذلك كان صديقي خير سند لي بعد خروجي على المعاش .. رحمه الله .. قيل انه قد قتل منذ بضعة ايام .. " ثم ركز الاستاذ رؤوف ناظريه على الرجل و اكمل " ربما من قتله احد تجار المخدرات الجدد الاشقياء "

ابتسم الرجل لهذه النظرة من عين الاستاذ رؤوف و قال له " سيكون غبيا حقا هذا التاجر .. فهو ممول رئيسي لهذه التركيبة من داخل المصنع .. سيقطع علينا جميعا متعة التحليق .. لكني اعلم من أحد الاصدقاء انك تعلم طريق آخر لداخل المصنع .. و ان ما اريده ستتحققه لي بشكل او بآخر .. أليس كذلك أستاذ رؤوف ؟؟ " انهى الرجل كلماته و هو يخرج مبلغ و قدره مرفقا فيه وريقة كتبت عليها عنوان و ميعاد و وضعه امام الاستاذ رؤوف بحركة سينيمائية و هو يتراجع في كرسيه الى الوراء مراقبا نظرات وجه الاستاذ رؤوف الخشبي
" مصائب قوم عند قوم مكاسب " قال الاستاذ الرؤوف و هو يدس المبلغ داخل ملابسه و يقرأ الوريقة في لهفة ثم قال و هو يرتجل واقفا " سأراك في الميعاد بالطبع " و اختفى خارج الكافيه.

وجد نفسه في غرفة صغيرة داخل يخت .. كانت جدرانه متشحه بالسواد .. إلا من بعض خطوط ديكور بيضاء على الثنايا كانها تتساقط من بحر السقف الابيض الواسع .. و في الغرفة الصغيرة توجد منضدة ينام الاستاذ رؤوف فوقها .. امام عينيه تتألق أنوار نيون ثلجية تتسلط على جسده العاري .. آخر ما يتذكره انه جاء في ميعاده مع الرجل الغريب .. كان الميعاد يخت في نادي اليخوت .. و الميقات كان بعد منتصف الليل .. لم يستغرب ابدا الميعاد او الميقات لان معظم الصفقات تتم بهذا الشكل .. و يتذكر ايضا كيف عندما أعطي القارورات التي تحتوي على التركيبة للرجل احتفلا معا بفتح زجاجة من الحميم العتيقة .. و كعادته انهمك في صب الحميم في كأسه .. انه كان ( الرجل ) يعلم مدى عشق الاستاذ رؤوف للخمر .. لكنه لا يتذكر ابدا كيف أصبح عاري الجسد .. و لا يتذكر أيضا كيفية وضع ذلك السائل الزيتي ذو رائحة الزيتون على جسده كله ..

حاول النهوض لكن شيئا ما قويا كان مكبلا كفيه و يمنعه من التحرك .. يديه كانتا مكبلتان على اقصى اتساعها .. و قدميه كانتا مضمومتان فوق بعضيهما و يمنعهما من التحرك حبل غليظ يلتف حولهما .. سمع صوت قدمين يقترب منه .. فدارت عينيه لتتلاقى و عين الرجل و هو يقترب منه .. فهمس الاستاذ رؤوف في وهن و الدوار يصعف برأسه " ماذا تفعل بي ؟ " همس له الرجل في بطء شديد " انا أنقذك ...! "

دار الرجل حول المنضدة التي ينام فوقها الاستاذ رؤوف و في يديه قارورة تحتوي السائل الزيتي و بدأ في سكب الزيت على جسده ثم حرك كفيه بطريقه عشوائية فوق جسد الاستاذ رؤوف كي يضمن وصول الزيت الى جميع الاجزاء و الثنايا .. " مجنون انت " قال الاستاذ رؤوف و هو لازال يحاول ان يتحرر من القيد .. فتوقفت يد الرجل عن العبث بجسد الاستاذ رؤوف و قال " اني أطهرك فقط .. فلا تنعتني بالجنون .. انت تحتاج الى الطهارة .. فكلنا خطائين .. نفعل الخطأ رغم تأكدنا انه خطأ .. و لكننا نعاند قدرنا و الاوامر الالهية كأننا لن نموت أبدا .. انت تؤمن بأن العقاب في الآخرة .. اليس كذلك استاذ رؤوف ؟ "

قال الأستاذ رؤوف و قد أفاق قليلا من الدوار " سواء كان العقاب في الآخرة او في الدنيا فانا لم أفعل شيئا أستحق العقاب عليه منك او من غيرك .. فقط الله وحده من يقرر ان ما افعله هو خطأ ام لا .. و هو الوحيد القادر على عقابي في الدنيا او في الآخرة .. لم يعينك الله وصيا له في الأرض .. ربما تفعل أشياءا و تعتقد انها خاطئة و ترى ان من يفعلها يستحق عقابا فوريا و لكن ربما الله يجعلك تفعلها لشيء ايجابيا في علم الغيب لا تراه انت بنظرك الضعيف .. و ربما تفعل اشياءا و تراها صحيحة و ان من يفعلها يستحق ثناءا فوريا و لكنك لا تعلم إذا كان ما تفعله له أثرا سلبيا في المستقبل ام لا .. كل شيء موضوع لسبب .. و كتب على الانسان ما يفعله قبل ان يولد .. ام إنك لا تعتقد في قدرة الله على حكم البشر ؟ "

توقف قليلا الرجل مذهولا ربما من كلمات الاستاذ رؤوف .. " لم أكن أعلم ان عاقري الخمر و تاجري الموت لهم وجهات نظر في الحياة و كيفية إدارتها .. انك تؤمن إيمانا كاملا بأن الانسان مسيّر و ليس مخيّر .. و هذا يضعنا في مرحلة عتاب لله على افعالنا و تملص واضح لما نفعله من أخطاء .. و لكن في حديثك نوع من الصحة .. فربما ما تفعله خطأ في نظري و لكن صحيح في المستقبل الغير معلوم .. وجهه نظر جيدة استاذ رؤوف " ثم إبتسم الرجل فابتسم أستاذ رؤوف أخيرا عندما وجد تلك الابتسامة المريحه على وجه الرجل و قال له الأستاذ رؤوف " هيا فك قيدي يا رجل .. يكفيني ذلك العقاب الذي أخذته منك الآن " و ضحكا الإثنان سويا في قوة ,,,
.
.
.
..تملل هذه المرة ضابط الشرطة عند اخراج الجثة من بحر الاسكندرية .. لقد كانت الجثة الثانية التي يعثر عليها بهذا الشكل .. الفرق الوحيد هذه المرة ان الجثة كانت رجلا في اواخر العقد الخامس من عمره .. و لكنه كان عاريا الجسد كما الاولى .. مصلوب على وتد خشبي ثقيل مرفق في آخره ثقل اسمنتي .. يبدو انه مات مخنوقا داخل الماء .. الجثة لم تكن منتخفه مما يدل انها كانت لفتره تحت الماء .. و بنفس الطريقة في الجثة الأولى نقش على جسده كلمات يحتاج الطب الشرعي لتحليلها .. كتب في أوراقه توقيت اتنشال الجثة .. و أقفل اوراقه في حيرة ,,,

ليست هناك تعليقات: